سورة المائدة - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)}
{إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} استثناء مخصوص بما هو من حقوق الله تعالى كما ينبىء عنه قوله تعالى: {فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وأما ما هو من حقوق العباد كحقوق الأولياء من القصاص ونحوه فيسقط بالتوبة وجوبه على الإمام من حيث كونه حدًّا، ولا يسقط جوازه بالنظر إلى الأولياء من حيث كونه قصاصًا، فانهم إن شاءوا عفوا، وإن أحبوا استوفوا.
وقال ناصر الدين البيضاوي: إن القتل قصاصًا يسقط بالتوبة وجوبه لا جوازه، وشنع عليه لضيق عبارة العلامة ابن حجر في كتابه التحفة، وأفرد له تنبيهًا فقال بعد نقله وهو عجيب، أعجب منه سكوت شيخنا عليه في حاشيته مع ظهور فساده لأن التوبة لا دخل لها في القصاص أصلًا إذ لا يتصور بقيد كونه قصاصًا حالتا وجوب وجواز لأنا إن نظرنا إلى الولي فطلبه جائز له ولا واجب مطلقاف، أو للإمام فإن طلبه منه الولي وجب وإلا لم يجب من حيث كونه قصاصًا، وإن جاز أو وجوب من حيث كونه حدًا فتأمله انتهى.
وتعقبه ابن قاسم فقال: ادعاؤه الفساد ظاهر الفساد فإنه لم يدع ما ذكر وإنما ادعى أن لها دخلًا في صفة القتل قصاصًا وهي وجوبه، وقوله: إذ لا يتصور إلخ قلنا: لم يدع أن له حالتي وجوب وجواز بهذا القيد بل ادعى أن له حالتين في نفسه وهو صحيح على أنه يمكن أن يكون له حالتان بذلك القيد لكن باعتبارين، اعتبار الولي واعتبار الإمام إذا طلب منه، وقوله: لأنا إذا نظرنا إلخ كلام ساقط، ولا شك أن النظر إليهما يقتضي ثبوت الحالتين قصاصًا، وقوله: فتأمله تأملنا فوجدنا كلامه ناشئًا من قلة التأمل انتهى.
وجعل مولانا شيخ الكل في الكل صبغة الله تعالى الحيدري منشأ تشنيع العلامة ما يتبادر من العبارة من كونها بيانًا لتفويض القصاص إلى الأولياء أما لو جعلت بيانًا لسقوط الحد في قتل قاطع الطريق بالتوبة قبل القدرة دون القتل قصاصًا فلا يرد التشنيع فتدبر، وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد وإن أسقطت العذاب، وذهب أناس إلى أن الآية في المرتدين لا غير لأن محاربة الله تعالى ورسوله إنما تستعمل في الكفار، وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أنس «أن نفرًا من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا واجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا، فأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} الآية»، وأنت تعلم أن القول بالتخصيص قول ساقط مخالف لإجماع من يعتد به من السلف والخلف، ويدل على أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة قوله تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} الخ، ومعلوم أن المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة، وقد فرق الله تعالى بين توبتهم قبل القدرة وبعدها، وأيضًا إن الإسلام لا يسقط الحد عمن وجب عليه.
وأيضًا ليست عقوبة المرتدين كذلك، ودعوى أن المحاربة إنما تستعمل في الكفار يردها أنه ورد في الأحاديث إطلاقها على أهل المعاصي أيضًا، وسبب النزول لا يصلح مخصصًا فإن العبرة كما تقرر بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وغيرهما عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالًا من قريش أن يستأمنوا له عليًا فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأتى عليًا فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ويسعون في الأرض الفساد؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ثم قال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} فقال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر؟ قال: وإن كان حارثة بن بدر، فقال: هذا حارثة بن بدر قد جاء تائبًا فهو آمن؟ قال: نعم، فجاء به إليه فبايعه، وقبل ذلك منه وكتب له أمانًا، وروي عن أبي موسى الأشعري ما هو عناه، ثم إن السمل الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله في غير أولئك، وأخرج مسلم والبيهقي عن أنس أنه قال: إنما سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء، وأخرج ابن جرير عن الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا، فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك وعلمه صلى الله عليه وسلم عقوبة مثلهم من القتل والصلب والقطع والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم، قال: وكان هذا القول ذكره لأبي عمر فأنكر أن تكون نزلت معاتبة، وقال: بل كانت تلك عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم فرفع عنهم السمل.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم فَنَسُواْ حَظًّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء} أي ألزمناهم ذلك لتخالف دواعي قواهم باحتجابهم عن نور التوحيد وبعدهم عن العالم القدسي {إلى يَوْمِ القيامة} أي إلى وقت قيامهم بظهور نور الروح، أو القيامة الكبرى بظهور نور التوحيد.
{وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بما كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14] وذلك عند الموت وظهور الخسران بظهور الهيئات القبيحة المؤذية الراسخة فيهم {يَصْنَعُونَ يَأَهْلَ الكتاب قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ} بحسب الدواعي والمقتضيات {كَثِيرًا مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ} عن الناس في أنفسكم {مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} إذا لم تدع إليه داعية {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ} أبرزته العناية الإلهية من مكامن العماء {وكتاب} [المائدة: 15] خطه قلم الباري في صحائف الإمكان جامعًا لكل كمال، وهما إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك وحد الضمير في قوله سبحانه: {يَهْدِى بِهِ الله} أي بواسطته {مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} أي من أراد ذلك {سُبُلَ السلام} وهي الطرق الموصلة إليه عز وجل. وقد قال بعض العارفين: الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم {وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظلمات} وهي ظلمات الشك والاعتراضات النفسانية والخطرات الشيطانية {إِلَى النور} وهو نور الرضا والتسليم {وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16] وهو طريق الترقي في المقامات العلية، وقد يقال: الجملة الأولى: إشارة إلى توحيد الأفعال، والثانية: إلى توحيد الصفات، والثالثة: إلى توحيد الذات {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} فحصروا الألوهية فيه وقيدوا الإله بتعينه وهو الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الارض جَمِيعًا} فإن كل ذلك من التعينات والشؤون والله من ورائهم محيط {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي عالم الأرواح وعالم الأجساد وعالم الصور {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} [المائدة: 17] ويظهر ما أراد من الشؤون {وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} فادّعوا بنوة الإسرار والقرب من حضرة نور الأنوار، وقد قال ذلك قوم من المتقدمين كما مرت الإشارة إليه، وقال ما يقرب من ذلك بعض المتأخرين، فقال الواسطي: ابن الأزل والأبد لكن هؤلاء القوم لم يعرفوا الحقائق ولم يذوقوا طعم الدقائق فرد الله تعالى دعواهم بقوله سبحانه: {قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم} والأبناء والأحباب لا يذنبون فيعذبون، أو لا يمتحنون إذ قد خرجوا من محل الامتحان من حيث الأشباح {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} كسائر عباد الله تعالى لا امتياز لكم عليهم بشيء كما تزعمون {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} منهم فضلًا {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} [المائدة: 18] منهم عدلًا {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم قَوْمٌ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكًا} بالولاية ومعرفة الصفات، أو بسلطنة الوجد وقوة الحال وعزة علم المعرفة، أو مالكين أنفسكم نعها عن غير طاعتي، والملوك عندنا الأحرار من رق الكونين وما فيه.
{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ} [المائدة: 20] أي عالمي زمانكم، ومنه اجتلاء نور التجلي من وجه موسى عليه السلام {العالمين يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ} وهي حضرة القلب {الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} في القضاء السابق حسب الاستعداد {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم} في الميل إلى مدينة البدن، والإقبال عليه بتحصيل لذاته {فَتَنقَلِبُواْ خاسرين} [المائدة: 21] لتفويتكم أنوار القلب وطيباته {قَالُواْ يأَبَانَا موسى أَنِ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} وهي صفات النفس {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا} بأن يصرفهم الله تعالى بلا رياضة منا ولا مجاهدة، أو يضعفوا عن الاستيلاء بالطبع {فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا داخلون} [المائدة: 22] حينئذٍ {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ} سوء عاقبة ملازمة الجسم {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} بالهداية إلى الصراط السوي وهما العقل النظري والعقل العملي {ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب} أي باب قرية القلب وهو التوكل بتجلي الأفعال كما أن باب قرية الروح هو الرضا {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالبون} بخروجكم عن أفعالكم وحولكم، ويدل على أن الباب هو التوكل قوله تعالى: {وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] بالحقيقة وهو الإيمان عن حضور، وأقل درجاته تجلي الأفعال {قَالُواْ يأَبَانَا موسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} أولئك الجبارين عنا وأزيلاهم لتخلو لنا الأرض {إِنَّا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24] أي ملازمون مكاننا في مقام النفس معتكفون على الهوى واللذات {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِى الارض} [المائدة: 26] أي أرض الطبيعة، وذلك مدة بقائهم في مقام النفس، وكان ينزل عليهم من سماء الروح نور عقد المعاش فينتفعون بضوئه {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنى ءادَمَ} القلب اللذين هما هابيل العقل؛ وقابيل الوهم {إِذْ قَرَّبَا قربانا} وذلك كما قال بعض العارفين: إن توأمة العقل البوذا العاقلة العملية المدبرة لأمر المعاش والمعاد بالآراء الصالحة المقتضية للأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة المستنبطة لأنواع الصناعات والسياسات، وتوأمة الوهم إقليميا القوة المتخيلة المتصرفة في المحسوسات والمعاني الجزئية لتحصيل الآراء الشيطانية، فأمر آدم القلب بتزوج الوهم توأمة العقل لتدبره بالرياضات الإذعانية والسياسات الروحانية وتصاحبه بالقياسات العقلية البرهانية فتسخره للعقل، وتزويج لعقل توأمة الوهم ليجعلها صالحة ويمنعها عن شهوات التخيلات الفاسدة وأحاديث النفس الكاذبة ويستعمل فيما ينفع فيستريح أبوها وينتفع، فحسد قابيل الوهم هابيل العقل لكون توأمته أجمل عنده وأحب إليه لمناسبتها إياه فأمرا عند ذلك بالقربان، فقربا قربانًا {فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا} وهو هابيل العقل بأن نزلت نار من السماء فأكلته، والمراد بها العقل الفعال النازل من سماء عالم الأرواح، وأكله إفاضته النتيجة على الصورة القياسية التي هي قربان العقل وعمله الذي يتقرب به إلى الله تعالى: {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاخر} وهو قابيل الوهم إذ يمتنع قبول الصورة الوهمية لأنها لا تطابق ما في نفس الأمر {قَالَ لاَقْتُلَنَّكَ} لمزيد حسده بزيادة قرب العقل من الله تعالى وبعده عن رتبة الوهم في مدركاته وتصرفاته، وقتله إياه إشارة إلى منعه عن فعله وقطع مدد الروح ونور الهداية الإلهية الذي به الحياة عنه بإيراد التشكيكات الوهمية والمعارضات في تحصيل المطالب النظرية {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27] الذين يتخذون الله تعالى وقاية، أو يحذرون الهيئات المظلمة البدنية والأهواء المردية والتسويلات المهلكة {لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ} أي إني لا أبطل أعمالك التي هي سديدة في مواضعها {إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} [المائدة: 28] أي لأني أعرف الله سبحانه فأعلم أنه خلقك لشأن وأوجدك لحكمة، ومن جملة ذلك أن أسباب المعاش لا تحصل إلا بالوهم ولولا الأمل بطل العمل {إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ} أي بإثم قتلي وإثم عملك من الآراء الباطلة {فَتَكُونَ مِنْ أصحاب النار} وهي نار الحجاب والحرمان {وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين} [المائدة: 29] الواضعين للأشياء في غير موضعها كما وضع الأحكام الحسية موضع المعقولات {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} نعه عن أفعاله الخاصة وحجبه عن نور الهداية {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} [المائدة: 30] لتضرره باستيلائه على العقل فإن الوهم إذا انقطع عن معاضده العقل حمل النفس على أمور تتضرر منها {فَبَعَثَ الله غُرَابًا} وهو غراب الحرص {يَبْحَثُ فِى الارض} أي أرض النفس {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى مِنْ أَخِيهِ} وهو العقل المنقطع عن حياة الروح المشوب بالوهم والهوى المحجوب عن عالمه في ظلمات أرض النفس {قَالَ يَاءادَمُ لّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي واجعل لّى وَزِيرًا مّنْ أَهْلِى هارون أَخِى} بإخفائها في ظلمة النفس فأنتفع بها {فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} [المائدة: 31] عند ظهور الخسران وحصول الحرمان {مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بَنِى إسراءيل أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الارض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ} [المائدة: 32] لأن الواحد مشتمل على ما يشتمل عليه جميع أفراد النوع، وقيام النوع بالواحد كقيامه بالجميع في الخارج، ولا اعتبار بالعدد فإن حقيقة النوع لا تزيد بزيادة الأفراد ولا تنقص بنقصها، ويقال في جانب الأحياء مثل ذلك {إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} أي أولياءهما {وَيَسْعَوْنَ فِى الارض فَسَادًا} بتثبيط السالكين {أَن يُقَتَّلُواْ} بسيف الخذلان {أَوْ يُصَلَّبُواْ} بحبل الهجران على جذع الحرمان {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ} عن أذيال الوصال {وَأَرْجُلُهُم مّنْ خلاف} عن الاختلاف والتردد إلى السالكين {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الارض} أي أرض القربة والائتلاف فلا يلتفت إليهم السالك ولا يتوجه لهم {ذلك لَهُمْ خِزْىٌ} وهوان {فِى الدنيا وَلَهُمْ فِى الاخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] لعظم جنايتهم، وقد جاء أن الله تعالى يغضب لأوليائه كما يغضب الليث الحرب، ومن آذى وليًا فقد آذنته بالمحاربة نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)}
{مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله} لما ذكر سبحانه جزاء المحارب وعظم جنايته وأشار في تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب أمر المؤمنين بتقواه عز وجل في كل ما يأتون ويذرون بترك ما يجب اتقاؤه من المعاصي التي من جملتها المحاربة والفساد، وبفعل الطاعة التي من عدادها التوبة والاستغفار ودفع الفساد {وابتغوا إِلَيهِ} أي اطلبوا لأنفسكم إلى ثوابه والزلفى منه {الوسيلة} هي فعيلة عنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله عز وجل من فعل الطاعات وترك المعاصي من وسل إلى كذا أي تقرب إليه بشيء، والظرف متعلق بها وقدم عليها للاهتمام وهي صفة لا مصدر حتى يمتنع تقدم معموله عليه، وقيل: متعلق بالفعل قبله، وقيل: حذوف وقع حالًا منها أي كائنة إليه، ولعل المراد بها الاتقاء المأمور به كما يشير إليه كلام قتادة، فإنه ملاك الأمر كله. والذريعة لكل خير والمنجاة من كل ضير، والجملة حينئذٍ جارية مما قبلها مجرى البيان والتأكيد، وقيل: الجملة الأولى أمر بترك المعاصي، والثانية أمر بفعل الطاعات، وأخرج ابن الأنباري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الوسيلة الحاجة، وأنشد له قول عنترة:
إن الرجال لهم إليك وسيلة *** إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
وكأن المعنى حينئذٍ اطلبوا متوجهين إليه حاجتكم فإن بيده عز شأنه مقاليد السموات والأرض ولا تطلبوها متوجهين إلى غيره فتكونوا كضعيف عاذ بقرملة، وفسر بعضهم الوسيلة نزلة في الجنة، وكونها بهذا المعنى غير ظاهر لاختصاصها بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام بناءًا على ما رواه مسلم وغيره «إنها منزلة في الجنة جعلها الله تعالى لعبد من عباده وأرجو أن أكون أنا فاسألوا لي الوسيلة» وكون الطلب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم مما لا يكاد يذهب إليه ذهن سليم، وعليه يمتنع تعلق الظرف بها كما لا يخفى.
واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد والقسم على الله تعالى بهم بأن يقال: اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا، ومنهم من يقول للغائب أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين: يا فلان ادع الله تعالى ليرزقني كذا وكذا، ويزعمون أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة، ويروون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور، أو فاستغيثوا بأهل القبور وكل ذلك بعيد عن الحق راحل.
وتحقيق الكلام في هذا المقام أن الاستغاثة خلوق وجعله وسيلة عنى طلب الدعاء منه لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حيًا ولا يتوقف على أفضليته من الطالب بل قد يطلب الفاضل من المفضول، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله تعالى عنه لما استأذنه في العمرة:
«لا تنسنا يا أخي من دعائك» وأمره أيضًا أن يطلب من أويس القرني رحمة الله تعالى عليه أن يستغفر له، وأمر أمته صلى الله عليه وسلم بطلب الوسيلة له كما مر آنفًا وبأن يصلوا عليه، وأما إذا كان المطلوب منه ميتًا أو غائبًا فلا يستريب عالم أنه غير جائز وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف، نعم السلام على أهل القبور مشروع ومخاطبتهم جائزة؛ فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون يرحم الله تعالى المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم» ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم أحرص الخلق على كل خير أنه طلب من ميت شيئًا، بل قد صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول إذا دخل الحجرة النبوية زائرًا: السلام عليك يا رسول الله؛ السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف ولا يزيد على ذلك ولا يطلب من سيد العالمين صلى الله عليه وسلم أو من ضجيعيه المكرمين رضي الله تعالى عنهما شيئًا وهم أكرم من ضمته البسيطة وأرفع قدرًا من سائر من أحاطت به الأفلاك المحيطة نعم الدعاء في هاتيك الحضرة المكرمة والروضة المعظمة أمر مشروع فقد كانت الصحابة تدعوا الله تعالى هناك مستقبلين القبلة ولم يرد عنهم استقبال القبر الشريف عند الدعاء مع أنه أفضل من العرش، واختلف الأئمة في استقباله عند السلام، فعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يستقبل بل يستدبر ويستقبل القبلة، وقال بعضهم: يستقبل وقت السلام، وتستقبل القبلة ويستدبر وقت الدعاء، والصحيح المعول عليه أنه يستقبل وقت السلام وعند الدعاء تستقبل القبلة، ويجعل القبر المكرم عن اليمين أو اليسار، فإذا كان هذا المشروع في زيارة سيد الخليقة وعلة الإيجاد على الحقيقة صلى الله عليه وسلم، فماذا تبلغ زيارة غيره بالنسبة إلى زيارته عليه الصلاة والسلام ليزاد فيها ما يزاد، أو يطلب من المزور بها ما ليس من وظيفة العباد؟؟ وأما القسم على الله تعالى بأحد من خلقه مثل أن يقال: اللهم إني أقسم عليك أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي، فعن ابن عبد السلام جواز ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم لأنه سيد ولد آدم، ولا يجوز أن يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وقد نقل ذلك عنه المناوي في «شرحه الكبير للجامع الصغير»، ودليله في ذلك ما رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن عثمان بن حنيف رضي الله تعالى عنه أن رجلًا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله تعالى أن يعافيني فقال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة يا رسول الله إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي اللهم فشفعه في»، ونقل عن أحمد مثل ذلك. ومن الناس من منع التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه مطلقًا وهو الذي يرشح به كلام المجد ابن تيمية؛ ونقله عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأبي يوسف وغيرهما من العلماء الأعلام، وأجاب عن الحديث بأنه على حذف مضاف أي بدعاء أو شفاعة نبيك صلى الله عليه وسلم، ففيه جعل الدعاء وسيلة وهو جائز بل مندوب، والدليل على هذا التقدير قوله في آخر الحديث: «اللهم فشفعه في» بل في أوله أيضًا ما يدل على ذلك، وقد شنع التاج السبكي كما هو عادته على المجد، فقال: ويحسن التوسل والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم وابتدع ما لم يقله عالم وصار بين الأنام مثلة انتهى.
وأنت تعلم أن الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم من الأئمة ليس فيها التوسل بالذات المكرمة صلى الله عليه وسلم، ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك فمؤل بتقدير مضاف كما سمعت؛ أو نحو ذلك كما تسمع إن شاء الله تعالى ومن ادعى النص فعليه البيان، وما رواه أبو داود في سننه وغيره من «أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك، فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رؤي ذلك في وجوه أصحابه، فقال: ويحك أتدري ما الله تعالى؟ إن الله تعالى لا يشفع به على أحد من خلقه شأن الله تعالى أعظم من ذلك» لا يصلح دليلًا على ما نحن فيه حيث أنكر عليه قوله: «إنا نستشفع بالله تعالى عليك» ولم ينكر عليه الصلاة والسلام قوله: «نستشفع بك إلى الله تعالى» لأن معنى الاستشفاع به صلى الله عليه وسلم طلب الدعاء منه، وليس معناه الإقسام به على الله تعالى، ولو كان الإقسام معنى للاستشفاع فلم أنكر النبي صلى الله عليه وسلم مضمون الجملة الثانية دون الأولى؟ وعلى هذا لا يصلح الخبر ولا ما قبله دليلًا لمن ادعى جواز الإقسام بذاته صلى الله عليه وسلم حيًا وميتًا، وكذا بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقًا قياسًا عليه عليه الصلاة والسلام بجامع الكرامة وإن تفاوت قوة وضعفًا، وذلك لأن ما في الخبر الثاني استشفاع لا إقسام، وما في الخبر الأول ليس نصًا في محل النزاع، وعلى تقدير التسليم ليس فيه إلا الإقسام بالحي والتوسل به، وتساوي حالتي حياته ووفاته صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن يحتاج إلى نص، ولعل النص على خلافه، ففي صحيح البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس رضي الله تعالى عنه، فقال: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون» فإنه لو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار لما عدلوا إلى غيره، بل كانوا يقولون: اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا، وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس، وهم يجدون أدني مساغ لذلك، فعدولهم هذا مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبحقوق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره.
وما ذكر من قياس غيره من الأرواح المقدسة عليه صلى الله عليه وسلم مع التفاوت في الكرامة الذي لا ينكره إلا منافق مما لا يكاد يسلم، على أنك قد علمت أن الإقسام به عليه الصلاة والسلام على ربه عز شأنه حيًا وميتًا مما لم يقم النص عليه لا يقال: إن في خبر البخاري دلالة على صحة الإقسام به صلى الله عليه وسلم حيًا وكذا بغيره كذلك، أما الأول فلقول عمر رضي الله تعالى عنه فيه: كنا نتوسل بنبيك صلى الله عليه وسلم، وأما الثاني فلقوله: إنا نتوسل بعم نبيك لما قيل: إن هذا التوسل ليس من باب الإقسام بل هو من جنس الاستشفاع، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته، ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمّنون لدعائه حتى سقوا، وقد ذكر المجد أن لفظ التوسل بالشخص والتوجه إليه وبه فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكون التوسل والتوجه في الحقيقة بدعائه وشفاعته، وذلك مما لا محذور فيه، وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى بذلك ويقسم به عليه وهذا هو محل النزاع وقد علمت الكلام فيه.
وجعل من الإقسام الغير المشروع قول القائل اللهم أسألك بجاه فلان فإنه لم يرد عن أحد من السلف أنه دعا كذلك، وقال: إنما يقسم به تعالى وبأسمائه وصفاته فيقال: أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا الله، المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك الحديث، ونحو ذلك من الأدعية المأثورة، وما ذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فاسألو الله تعالى بجاهي فإن جاهي عند الله تعالى عظيم» لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو شيء في كتب الحديث، وما رواه القشيري عن معروف الكرخي قدس سره أنه قال لتلامذته: إن كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فأقسموا عليه بي فإني الواسطة بينكم وبينه جل جلاله الآن لو يوجد له سند يعول عليه عند المحدثين، وأما ما رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الخارج إلى الصلاة: «اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياءًا ولا سمعة ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة»، ففي سنده العوفي وفيه ضعف وعلى تقدير أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم يقال فيه: إن حق السائلين عليه تعالى أن يجيبهم، وحق الماشين في طاعته أن يثيبهم، والحق عنى الوعد الثابت المتحقق الوقوع فضلًا لا وجوبًا كما في قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} [الروم: 47]، وفي الصحيح من حديث معاذ: «حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحقهم عليه إن فعلوا ذلك أن لا يعذبهم» فالسؤال حينئذٍ بالإثابة والإجابة وهما من صفات الله تعالى الفعلية، والسؤال بها مما لا نزاع فيه فيكون هذا السؤال كالاستعاذة في قوله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ برضاك من سخطك وعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك» فمتى صحت الاستعاذة عافاته صح السؤال بإثابته وإجابته.
وعلى نحو ذلك يخرج سؤال الثلاثة لله عز وجل بأعمالهم، على أن التوسل بالأعمال معناه التسبب بها لحصول المقصود، ولا شك أن الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا، ولا كذلك ذوات الأشخاص أنفسها، والناس قد أفرطوا اليوم في الإقسام على الله تعالى، فأقسموا عليه عز شأنه ن ليس في العير ولا النفير وليس عنده من الجاه قدر قطمير، وأعظم من ذلك أنهم يطلبون من أصحاب القبور نحو إشفاء المريض وإغناء الفقير ورد الضالة وتيسير كل عسير، وتوحي إليهم شياطينهم خبر «إذا أعيتكم الأمور» الخ، وهو حديث مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم: عن اتخاذ القبور مساجد ولعن على ذلك فكيف يتصور منه عليه الصلاة والسلام الأمر بالاستغاثة والطلب من أصحابها؟ا سبحانك هذا بهتان عظيم.
وعن أبي يزيد البسطامي قدس سره أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون، ومن كلام السجاد رضي الله تعالى عنه أن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة في عقله، ومن دعاء موسى عليه السلام وبك المستغاث وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «إذا استعنت فاستعن بالله تعالى» الخبر، وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
وبعد هذا كله أنا لا أرى بأسًا في التوسل إلى الله تعالى بجاه النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى حيًا وميتًا، ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى، مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته، فيكون معنى قول القائل: إلهي أتوسل بجاه نبيك صلى الله عليه وسلم أن تقضي لي حاجتي، إلهي اجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي، ولا فرق بين هذا وقولك: إلهي أتوسل برحمتك أن تفعل كذا إذ معناه أيضًا إلهي اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا، بل لا أرى بأسًا أيضًا بالإقسام على الله تعالى بجاهه صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، والكلام في الحرمة كالكلام في الجاه، ولا يجري ذلك في التوسل والإقسام بالذات البحت، نعم لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. ولعل ذلك كان تحاشيًا منهم عما يخشى أن يعلق منه في أذهان الناس إذ ذاك وهم قريبو عهد بالتوسل بالأصنام شيء، ثم اقتدى بهم من خلفهم من الأئمة الطاهرين، وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم لكون القوم حديثي عهد بكفر كما ثبت ذلك في الصحيح، وهذا الذي ذكرته إنما هو لدفع الحرج عن الناس والفرار من دعوى تضليلهم كما يزعمه البعض في التوسل بجاه عريض الجاه صلى الله عليه وسلم لا للميل إلى أن الدعاء كذلك أفضل من استعمال الأدعية المأثورة التي جاء بها الكتاب وصدحت بها ألسنة السنة، فإنه لا يستريب منصف في أن ما علمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ودرج عليه الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وتلقاه من بعدهم بالقبول أفضل وأجمع وأنفع وأسلم، فقد قيل ما قيل إن حقًا وإن كذبًا.
بقي هاهنا أمران: الأول: إن التوسل بجاه غير النبي صلى الله عليه وسلم لا بأس به أيضًا إن كان المتوسل بجاهه مما علم أن له جاهًا عند الله تعالى كالمقطوع بصلاحه وولايته، وأما من لا قطع في حقه بذلك فلا يتوسل بجاهه لما فيه من الحكم الضمني على الله تعالى بما لم يعلم تحققه منه عز شأنه، وفي ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى، الثاني: إن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات وغيرهم، مثل يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك وأن لا يحوم حول حماه، وقد عدّه أناس من العلماء شركًا وأن لا يكنه، فهو قريب منه ولا أرى أحدًا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب أو يسمع النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى وإلا لما دعاه ولا فتح فاه، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم، فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في «معجمه» من أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال الصديق رضي الله تعالى عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق فجاءوا إليه، فقال: «إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله تعالى» لم يشك في أن الاستغاثة بأصحاب القبور الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه والإصاخة إلى أهل ناديه أمر يجب اجتنابه ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه، ولا يغرنك أن المستغيث خلوق قد تقضى حاجته وتنجح طلبته فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه عز وجل، وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات هيهات إنما هو شيطان أضله وأغواه وزين له هواه، وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام ليضل عبدتها الطغام، وبعض الجهلة يقول: إن ذلك من تطور روح المستغاث به، أو من ظهور ملك بصورته كرامة له ولقد ساء ما يحكمون، لأن التطور والظهور وإن كانا ممكنين لكن لا في مثل هذه الصورة وعند ارتكاب هذه الجريرة، نسأل الله تعالى بأسمائه أن يعصمنا من ذلك، ونتوسل بلطفه أن يسلك بنا وبكم أحسن المسالك.
{وجاهدوا فِى سَبِيلِهِ} مع أعدائكم بما أمكنكم.
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} بنيل نعيم الأبد والخلاص من كل نكد.


{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)}
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} كلام مبتدأ مسوق لتأكيد وجوب الامتثال بالأوامر السابقة، وترغيب المؤمنين في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عز شأنه قبل انقضاء أوانه، ببيان استحالة توسل الكفار يوم القيامة بما هو من أقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلًا عن نيل الثواب {لَوْ أَنَّ لَهُمْ} أي لكل واحد منهم كقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} [يونس: 54] الخ، وفيه من تهويل الأمر وتفظيع الحال ما ليس في قولنا لجميعهم {مَّا فِى الارض} أي من أصناف أموالها وذخائرها وسائر منافعها قاطبة، وهو اسم {ءانٍ} و{لَهُمْ} خبرها ومحلها الرفع عندهم خلا أنه عند سيبويه رفع على الابتداء و لا حاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتها على المسند والمسند إليه، وقد اختصت من بين سائر ما يؤول بالاسم بالوقوع بعد {لَوْ}، وقيل: الخبر محذوف ويقدر مقدمًا أو مؤخرًا قولان، وعند الزجاج والمبرد والكوفيين رفع على الفاعلية أي لو ثبت أن لهم ما في الأرض، وقوله تعالى: {جَمِيعًا} توكيد للموصول أو حال منه، وقوله سبحانه: {وَمِثْلَهُ} بالنصب عطف عليه، وقوله عز وجل: {مَعَهُ} ظرف وقع حالًا من المعطوف، والضمير راجع إلى الموصول، وفائدته التصريح بفرض كينونتهما لهم بطريق المعية لا بطريق التعاقب تحقيقًا لكمال فظاعة الأمر.
واللام في قوله تعالى: {لِيَفْتَدُواْ بِهِ} متعلقة بما تعلق به خبر {ءانٍ} وهو الاستقرار المقدر في {لَهُمْ} وبالخبر المقدر عند من يراه، وبالفعل المقدر بعد {لَوْ} عند الزجاج ومن نحا نحوه، قيل: ولا ريب في أن مدار الإفتداء بما ذكر هو كونه لهم لا ثبوت كونه لهم وإن كان مستلزمًا له، والباء في {بِهِ} متعلقة بالافتداء، والضمير راجع إلى الموصول {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} وتوحيده لكونهما بالمعية شيئًا واحدًا، أو لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة كما مرت الإشارة إلى ذلك، وقيل: هو راجع إلى الموصول، والعائد إلى المعطوف أعني مثله مثله، وهو محذوف كما حذف الخبر من قيار في قوله:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله *** فإني وقيار بها لغريب
وقد جوز أن يكون نصب، ومثله على أنه مفعول {مَعَهُ} ناصبه الفعل المقدر بعد {لَوْ} تفريعًا على رأي الزجاج ومن رأى رأيه، وأمر توحيد الضمير حينئذ ظاهر إذ حكم الضمير بعد المفعول معه الإفراد، وأجاز الأخفش أن يعطى حكم المتعاطفين فيثني الضمير، وقال بعض النحاة: الصحيح جوازه على قلة. واعترض هذا الوجه أبو حيان بأنه يصير التقدير: مع مثله معه وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة، فلا فائدة في ذكر {مَعَهُ} معه لملازمة معية كل منهما للآخر، وأجاب الطيبي بأن {مَعَهُ} على هذا تأكيد، وقال السفاقسي: جوابه أن التقدير ليس كالتصريح، والواو متضمنة معنى مع، وإنما يقبح لو صرح ع وكثيرًا ما يكون التقدير بخلاف التصريح، كقولهم: رب شاة وسخلتها، ولو صرحت برب فقلت: ورب سخلتها لم يجز، وأجاب الحلبي بأن الضمير في {مَعَهُ} عائد على {مّثْلِهِ} ويصير المعنى مع مثلين وهو أبلغ من أن يكون مع مثل واحد، نعم إن كون العامل ثبت ليس بصحيح لأن العامل في المفعول معه هو العامل في المصاحب له كما صرحوا به، وهو هنا {مَا} أو ضميرها، وشيء منهما ليس عاملًا فيه ثبت المقدر، وأما صحته على تقدير جعله لهم، أو متعلقه على ما قيل، فممتنع أيضًا على ما نقل عن سيبويه أنه قال: وأما هذا لك وأباك فقبيح، لأنه لم يذكر فعل ولا حرف فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل، فإن فيه تصريحًا بأن اسم الإشارة وحرف الجرف والظرف لا تعمل في المفعول معه، وقوله تعالى: {مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة} متعلق بالافتداء أيضًا أي لو أن ما في الأرض ومثله ثابت لهم ليجعلوه فدية لأنفسهم من العذاب الواقع ذلك اليوم.
{مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ} ذلك، وهو جواب {لَوْ} وترتيبه ما قال شيخ الإسلام على كون ذلك لهم لأجل افتدائهم به من غير ذكر الافتداء بأن يقال: وافتدوا به، مع أن الرد والقبول إنما يترتب عليه لا على مباديه للإيذان بأنه أمر محقق الوقوع غني عن الذكر، وإنما المحتاج إلى الفرض قدرتهم على ما ذكر، أو للمبالغة في تحقق الرد، وتخييل أنه وقع قبل الإفتداء على منهاج ما في قوله تعالى: {أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إليك طرفك فلما رآه مستقرًا عنده} [النمل: 40] حيث لم يقل فأتى به فرآه فلما رآه الخ، وما في قوله سبحانه: {وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31] من غير ذكر خروجه عليه السلام عليهن ورؤيتهن له، وقال بعض الأفاضل: إنما لم يكتف بقوله: إن الذين كفروا لو يفتدون بما في الأرض جميعًا من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم، لأن ما في النظم الكريم يفيد أنهم لو حصلوا ما في الأرض ومثله معه لهذه الفائدة وكانوا خائفين من الله تعالى وحفظوا الفدية وتفكروا في الافتداء ورعاية أسبابه كما هو شأن من هو بصدد أمر ما تقبل منهم فضلًا عن أن يكونوا غافلين عن تحصيل الفدية وقصدوا الفدية فجأة، ولهذا لم يقل لو أن لهم ما في الأرض جميعًا ومثله معه ويفتدون به ما تقبل الخ، والجملة الامتناعية بحالها خبر {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} وهي كناية عن لزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه، فإن لزوم العذاب من لوازمه أن ما في الأرض جميعًا ومثله معه لو افتدوا به لم يتقبل منهم، فلما كانت هذه الجملة، بل هذه الملازمة لازمة للزوم العذاب عبر عنها بها، وأطلق بعضهم على هذه الجملة تمثيلًا، ولعل مراده على ما ذكره القطب ما ذكره، وقال بعض المحققين: لا يريد به الاستعارة التمثيلية بل إيراد مثال وحكم يفهم منه لزوم العذاب لهم، أي لم يقصد بهذا الكلام إثبات هذه الشرطية بل انتقال الذهن منه إلى هذا المعنى، وبهذا الاعتبار يقال له: كناية، ويمكن تنزيله على التمثيل الإصطلاحي بأن يقال: إن حالهم في حال التفصي عن العذاب نزلة حال من يكون له ذلك الأمر الجسيم ويحاول به التخلص من العذاب فلا يتقبل منه ولا يتخلص.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قيل: محله النصب على الحالية، وقيل: الرفع عطفًا على خبر {ءانٍ} وقيل: إنه معطوف على {إِنَّ الذين} فلا محل له من الإعراب مثله، وفائدة الجملة التصريح بالمقصود من الجملة الأولى لزيادة تقريره وبيان هوله وشدته، وقيل: إن المقصود بها الإيذان بأنه كما لا يندفع بذلك عذابهم لا يخفف بل لهم بعد عذاب في كمال الإيلام، وكذلك قوله تعالى:

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15